د. سعد الدين إبراهيم يكتب للخبرنيوز من موقعة الجَمَل.. إلى موقعة الجَبَل

كانت موقعة الجمل يوم 2 فبراير 2011م، حينما أوعزت سُلطات نظام الرئيس مُبارك إلى أصحاب الجِمال بمنطقة شارع الهرم، بُمهاجمة شباب الثورة، لأنهم السبب في تدمير موسم السياحة الذي يعتمد عليه أهالي نزلة السمّان والجهات القريبة من المزارات السياحية لأثار الجيزة، حيث الأهرامات وأبو الهول. وصدّق أهالي تلك المناطق مزاعم آل مُبارك، فركبوا خيولهم وجِمالهم وتوجهوا إلى ميدان التحرير لمُساعدة قوات الأمن في تفريق المُتظاهرين. ولكن شباب التحرير صمدوا أمام هؤلاء المُهاجمين، وانتهت المُحاولة بالفشل الذريع، وسقط آل مُبارك بعدها بأسبوعين. وكان ذلك اليوم علامة فارقة في تاريخ ثورة 25 يناير، وأطلق الثوار على هذه الواقعة اسم “معركة الجَمَل”.

أما واقعة “الجَبَل” فهو إشارة إلى جَبَل المقطم، حيث اختار الإخوان المسلمون، أن يكون موقعاً لمقرهم الرئيسي، الذي شيّدوه بشارع رقم 15، قُرب مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية، ولمستشفى يحي الرخاوي للأمراض النفسية. وقد تعمّد الإخوان المسلمون اختيار هذا الموقع الجديد لصعوبة الوصول إليه سيراً على الأقدام من مدينة القاهرة، ويحتاج الوصول إليه إلى سيارات أو حافلات. ومع ذلك، فإن الغضب المُتزايد لدى الشباب الثائر ضد الإخوان المسلمين، دفع الآلاف منهم للإعلان عن مُظاهرة احتجاجية أمام المقر الجديد لجماعة الإخوان، يوم الجمعة 22/3/2013، فاستعدت ميليشيات الإخوان للفتك بالمُظاهرة الموعودة. وبالفعل، حدثت مواجهات عنيفة بين شباب الثورة وميليشيات الإخوان، سقط فيها مئات الجرحى. ولولا أن سُكان الأحياء الشعبية القريبة، مثل السيدة عائشة والقلعة والمُقطم، سارعوا بشهامة “أولاد البلد” المعروفة، لدعم الشباب الثائر، لربما كان قد فتكت بهم ميليشيات الإخوان، كما سبق لهم أن فعلوا في مُظاهرات احتجاجية سابقة أمام القصر الرئاسي (الاتحادية).

إن الذي غاب على الإخوان المسلمين ـ سواء عن مكتب إرشادهم أو عن ميليشياتهم ـ هو أن ثورة 25 يناير كانت شاهداً، وفاعلاً، على ثلاثة تغييرات هامة في الشخصية المصرية:

1ـ أول هذه التغييرات هي كسر جِدار الخوف عند معظم المصريين. وكان قد بدأ تراكم حاجز الخوف هذا عند المصريين، منذ عهد الفرعون مينا (نارمر) الذي وحّد القُطرين، القبلي والبحري، قبل ستة آلاف سنة. وتطور الإعجاب بالبطل الفرعوني، إلى درجة تأليهه، فأصبح الفرعون هو “الملك الإله”، يخافه المصريون، ويعبدونه، ويتقون غضبه. فقد كان هو الذي يُسيطر ويتحكم في مياه الشُريان الوحيد، الذي يعتمد عليه العباد والبلاد، في زرعهم وضرعهم وهو نهر النيل. وكان غضب الحاكم يمكن أن يؤدي إلى السجن أو النفي إلى الصحراء، خارج الوادي والدلتا، أي إلى الهلاك. وظل هذا الخوف يتعمّق في نفوس المصريين من حُكامهم، حتى بعد زوال الفراعنة، واستبدالهم بحُكام أجانب من الفُرس، إلى اليونان، والرومان، والعرب، والمماليك، والأتراك، ثم إلى الأوروبيين، وأخيراً العسكريين من أبناء البلاد. ولكن جِدار الخوف من الحاكم، بدأ يهتز في السنوات العشر الأخيرة من عهد الرئيس حسني مُبارك، ثم انهار تماماً مع ثورة الشباب خلال الثمانية عشر يوماً من يناير 2011. وأسقط المصريون حاكمهم، لأول مرة في تاريخهم المُمتد. ولم يخافوا من المجلس العسكري، الذي تولى السُلطة من حسني مُبارك، فسرعان ما خرجت المُظاهرات التي هتفت بسقوط العسكر، وأجبرتهم على عقد انتخابات ديمقراطية نجح تنظيم الإخوان المسلمين في اقتناصها. ولكن هذا الاقتناص لم يكن يعني أن يصبح هؤلاء الإخوان حُكاماً مُطلقين. لذلك، كلما ظهر منهم اشتطاط، أو بوادر استئثار أو احتكار للسُلطة، هبّ شباب مصر للتظاهر ضدهم. ولكن يبدو أن قادة الإخوان المسلمين، مُمثلة في ما يُسمى “مكتب الإرشاد”، لم يستوعب هذه الحقيقة تماماً.

2ـ أما التغيير الثاني، الذي طرأ على المصريين منذ ثورة 25 يناير2011، فهو أن أغلبيتهم قد “تسيّست”، أي أصبحت تهتم بالسياسة، أي بالشأن العام. فمن أبسط فلاحة في قُرى مصر، إلى أعتى مُثقفيهم في مقاهي القاهرة، أو صالونات الزمالك، يتحدثون في السياسة. ولم يعد الشأن العام حِكراً أو احتكاراً للنُخبة في القاهرة أو للطلبة في الجامعات. ولا أدل على ذلك من الجماهير الغفيرة التي تستجيب لنداء المليونيات في ميادين مصر الكُبرى ـ سواء في التحرير، أو المنصة، في القاهرة، أو عند مسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية. بل وأصبح الأقباط والنساء يُنظمون مسيراتهم الخاصة سواء للاحتجاج على ما ينتقص من حقوقهم في المواطنة الكاملة، أو لمطالب فئوية خاصة، ولكنها مشروعة.

3ـ وضمن ما ذكرناه أعلاه، فإن تغيراً ثالثاً بدأنا نراه، ونشعر معه بالخطر، وهو صحوة أهلنا في المناطق الطرفية من أرض مصر المحروسة. ونقصد بذلك تحديداً، كلا من سيناء، والنوبة، ومطروح. فإلى وقت قريب، وربما إلى الآن، كانت هذه المناطق تُعرف باسم “المناطق النائية”، التي يتم عقاب بعض العاملين بالدولة بنقلهم إليها. وكان المنقولون إليها، بالتالي، يشعرون أنهم من المغضوبين عليهم، فيستقر في نفوسهم، ويتعمّق في وجدانهم أنهم منبوذين. وما أدراك ما ينتج عن نفسية المنبوذين من سلوكيات، تتراوح بين المرارة، والمُراوغة، والاذدارء. وهي عناصر البيئة الخصبة للتمرد، أو حتى للمُطالبة بالانفصال عن الوطن الأم. وربما كانت القبائل والعشائر في شبه جزيرة سيناء، هم الأكثر قابلية لتلك النزعات الانفصالية.

فلا حول ولا قوة إلا بالله